وكان واضحا من رسائل جليلي وردود الفعل الحادة عليها، ان المواجهة في المنطقة أصبحت مكشوفة ومن دون أي قفازات ديبلوماسية، وان اللاعبين الكبار قرروا ان يضعوا أوراقهم فوق الطاولة، بحيث تقلصت مساحة المناورة الى أدنى الحدود، مع بلوغ الازمة السورية ذروة متقدمة، جعلت نبرة المسؤولين الإيرانيين تتصاعد مؤخرا، الى حد التلويح بأن حريق سوريا سيُشعل المنطقة ويُحرق إسرائيل، إذا لم يتم إخماده، في وقت تتجه العلاقة مع تركيا والسعودية نحو مزيد من التعقيد
ويمكن القول ان جولة جليلي الأخيرة اكتسبت وزنها من خلال هوية الزائر، وتوقيت الزيارة، ومضمون المواقف التي أطلقها، بما يعكس انتقال القيادة الايرانية من التموضع في خط الدفاع الى مرحلة شن هجوم مضاد.
أما في ما يتعلق بـ«البطاقة الشخصية» لجليلي، فإن الرجل هو جزء أساسي من مطبخ القرار في إيران، حيث يرتبط ارتباطا مباشرا بالمرشد الاعلى الإمام علي الخامنئي، وتجمعه علاقة قوية بالرئيس محمود أحمدي نجاد، ويُمسك بالملف النووي والمفاوضات المتصلة به. وبهذا المعنى، يمثل جليلي شخصية محورية في المنظومة الإيرانية، وكلامه يعبر عن «الموقف الصافي» للجمهورية الإسلامية، وكل كلمة ينطق بها مدروسة وتؤخذ على قدر كبير من الجدية والأهمية
ومن هنا، فإن مجيء جليلي الى بيروت، بما يمثل، يعني أن لبنان يشكل بالنسبة الى طهران عمقا حيويا للأمن القومي الإيراني، وانها معنية بتأكيد صلابة المقاومة ومنعتها، في مواجهة محاولات الإيحاء بأن الضغوط التي يتعرض لها نظام الرئيس بشار الأسد من شأنها أن تحرج محور المقاومة، وفي طليعته «حزب الله».
بدا واضحا ان جليلي أراد أن يؤكد ان المقاومة في لبنان تشكل خيارا ثابتا وراسخا، بمعزل عن الظروف المتحركة، وان من يفترض ان استهداف النظام السوري سيضعفها هو واهم، وها هي إيران تنزل بكل ثقلها الى الساحة للحفاظ على التوازن ومنع اختلاله لمصلحة المعسكر المضاد، تحت وطأة الأزمة السورية المفتوحة على مصراعيها
وبالنسبة الى التوقيت، كان لافتا للانتباه أن زيارة جليلي الى بيروت ودمشق جاءت مع بدء معركة حلب، وكأن طهران أرادت ان تقول لمن يهمه الامر، في المنطقة والغرب، انها معنية مباشرة بهذه المعركة، وانها تدعم قرار الرئيس بشار الأسد بحسمها عسكريا، على قاعدة ان من يُحكم قبضته على الأرض يستطيع أن يفرض شروطه في السياسة أو أقله يستطيع ان يُحسّن موقعه في أي تسوية، فكيف إذا كانت حلب قريبة من الحدود التركية، وهناك من يراهن على تحويلها الى «بنغازي» أخرى، تكون مسنودة الى الظهر التركي.
وانطلاقا من هذه الاهمية الاستراتيجية للمواجهة الحاصلة في حلب، يؤكد العارفون ان طهران لا يمكن ان تقبل بتحويل هذه المدينة ومحيطها الى «منطقة عازلة»، يراد منها ان تكون منصة انطلاق لشد الخناق على بشار الاسد في دمشق، وهي تدرك ان من يسيطر على حلب ينتزع زمام المبادرة
أما في ما يتعلق بمضمون طروحات جليلي في بيروت ودمشق، لا سيما لجهة تأكيده ان محور المقاومة لن يُكسر، فهو يؤشر الى ان طهران باتت تتصرف على أساس انها شريكة في المواجهة الحالية وتقف على خطوطها الأمامية، وليست مجرد حاضن للنظام السوري من الخطوط الخلفية
وعكست مواقف جليلي إشارة ايرانية واضحة ومتجددة بأن سقوط الاسد غير مسموح، وان إيران ستربح الرهان على بقائه ولو ان معظم العالم يصطف ضده، تماما كما سبق لها ان ربحت الرهان على اختيار نوري المالكي رئيسا للحكومة العراقية يوم وقف الكثيرون في العالم الى جانب خيار اياد علاوي ومن بينهم سوريا نفسها، ليؤول المنصب في نهاية المطاف الى المالكي
لقد اختار جليلي ان يرسم من دمشق الخطوط الحمر للصراع، وان يدخل اليها بعد نجاح الجيش في إخراج معظم المسلحين منها، موجهاً رسالة واضحة الى الولايات المتحدة بالدرجة الاولى وفحواها ان المعركة في سوريا أصبحت إيرانية – أميركية وانه لا يمكن الاستفراد بالرئيس بشار الاسد تحت شعارات مموهة تحاول طمس البعد الحقيقي للصراع، وان المحور الذي زاره جليلي والممتد من بيروت الى طهران مرورا بدمشق وبغداد هو كلٌ لا يتجزأ
وعليه، يعتبر العارفون بجوهر الاستراتيجية الايرانية حيال سوريا ان الازمة السورية هي قضية أمن قومي بالنسبة الى طهران، توازي في أهميتها الملف النووي الإيراني، بحيث يكاد يصح القول ان الجمهورية الاسلامية تعتبر ان تخصيب «اليورانيوم الاستراتيجي» في سوريا لا يقل شأنا عن تخصيب اليورانيوم المتصل بالبرنامج النووي، ومن يظن ان طهران يمكن ان تساوم على الاسد في لحظة ما، يرتكب خطأ قاتلا في الحسابات، كما يجزم المطلعون على الحقائق الإيرانية.