التدخل الدولي يتراجع وسورية تسير إلى التقسيم – غازي دحمان – الحياة
لكن رغم ذلك فالواضح أن للدول الكبرى في البيئتين الإقليمية والدولية حساباتها المختلفة، بحيث تعمل على تطوير نطاق خياراتها بما يتناسب ورؤاها الإستراتيجية وممكنات القدرة لديها، وهي خيارات تبدو منفصلة عن الواقع في الميدان السوري، ولا تشكل فكرة تخليص السوريين من الموت الذي يداهمهم أحد مكوناتها.
لقد أثبتت الأزمة السورية مرونة وقدرة كبيرة لدى الإستراتيجيات الدولية على تطوير تكتيكاتها السياسية الهادفة إلى إيجاد مخارج آمنة لها، والقدرة على البناء على الحالة المأسوية السورية، بصرف النظر عن مكونات الخطورة في هذه الأزمة، مستفيدة في ذلك من حالة الانحطاط التي يشهدها العالم، في ظل عدم وجود مشروع كوني واضح لدى القطب الأول (الولايات المتحدة) ومنافسيه الصاعدين (روسيا والصين ومجموعة البريكس).
وإذا كان من نافلة القول أن العالم يعيش في مرحلة انحطاط إستراتيجي نتيجة انكماش القوى الدولية الكبرى على ذاتها جراء ما أصاب عناصر القوة فيها من إضمحلال فرضته جملة من المتغيرات، فإن البديل الإستراتيجي لذلك هو السعي إلى تقليص حجم الخسائر ما أمكن وليس المبادرة إلى ترسيم عوالم منسجمة ومتكيفة مع نماذج سياسية واقتصادية معينة، ولا يتوقف هذا الأمر على القوى القديمة لكنه ينسحب على ما يسمى بالقوى الصاعدة التي ينحصر طموحها بالمشاركة في القرار الدولي وليس بفرض رؤى ومشاريع بذاتها.
في ظل هذا الواقع الإستراتيجي الرخو تتفاعل الأزمة السورية، ويبدو عنصر العجز الدولي أكثر دينامياتها تفاعلاً، ويبدو هذا الأمر أكثر جلاءً ووضوحاً في عدم استعداد أي طرف دولي أو إقليمي إلزام نفسه بإيجاد حل منطقي وجريء للأزمة السورية، والاكتفاء بدل ذلك بطرح الحلول الجزئية أو إتباع سياسة انتظار لما قد تؤول إليه وقائع الصراع الميداني بين أطراف الأزمة. أو إبداء الاستعداد (اللفظي) للتعامل مع ارتداداتها واحتواؤها في الداخل ومنعها من توسيع دائرة العنف وتفتيت الدول المجاورة، أو تصعيد المخاوف من استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية ضد دول الجوار، وهي قضايا باتت أكثر إلحاحاً من تخفيف حدة العنف داخل سورية.
ولعل الخطر الأكبر الذي تنتجه هذه الوضعية الدولية الرخوة هو إمكانية ترجمتها على أرض الواقع السوري، بحيث تتوافق مكونات الصراع والعجز الدولي عن الخروج من المأزق، على القبول بما تولده تفاعلات الأزمة والتكيف معها بوصفها أفضل الممكن، في ظل إغلاق قنوات وطرق التفاوض الدولية، واعتبار الأزمة السورية، وعلى رغم كل ما يقال عن الأهمية الجيوإستراتيجية للبلد، أزمة هامشية لا تستدعي تطوير إستراتيجيات تفاوضية وخلق ممكنات تساومية لحلها.
وفي التطبيق العملي لهذه الإشكالية، ترك الأزمة السورية في إطار تفاعلاتها وإكمال سياق الفوضى الذي بدأت تندرج فيه تفاصيلها العديدة وذلك بأن تطور أقصى سيناريواتها، أي الذهاب إلى التقسيم واعتبار هذا الخيار، المتحول إلى واقع في مرحلة معينة، أفضل الممكن والأكثر سلاماً، بحيث يلجأ كل مكون إلى حماية عناصره والأهم وقف سيولة العنف في إطار حدود إثنية وجغرافية، يمكن أن تجد شرعيتها في حالة الإنهاك التي أصابت المجتمع السوري والرغبة في العيش بسلام وفي إطار أية سورية كانت.
يحمل هذا التخريج العملاني، والذي يبدو أنه لم يعد بعيداً عن تفكير دوائر القرار في العواصم الكبرى، فرصة مناسبة للخروج من عنق زجاجة الأزمة السورية، كما أنه يتوافق بدرجة كبيرة مع حالة الانحطاط العالمية التي تتبنى قاعدة التقليل من المشاكل والأزمات لتخفيف حدة الانشغالات، وبالتالي تقبل روسيا بتحقيق مصالحها العتيقة بالحفاظ على تواجد في البحر المتوسط، وترضى إيران بحصة من سورية، فيما تؤمن واشنطن سلام إسرائيل وأمن منابع الطاقة، وكل ذلك في إطار أفضل الممكن والغنيمة باحتساب أقل الأثمان على اعتبار أنها مكاسب إضافية.
لم يبقَ في سورية بالفعل ما يستحق التفاوض عليه، ولا حتى المجال لبذل جهود استنفد أغلبها في تعريف الأزمة وتعيين الخطأ من الصواب. أهل البلد أنفسهم باتوا، وبعد سبعة عشر شهراً من الصراع الدامي والموهن للكرامة والنفسية، ميالين إلى الخلود بسلام، فمن فقد جزءاً عزيزاً من أسرته في غياهب السجون وفي القبور، ومن صار لاجئاً يتوسل الأمن والإغاثة في الداخل والخارج، لن يهتم كثيراً بحدود سورية القادمة وشكل علمها وحتى عقيدة جيشها. ذلك ترف لا يملكه من بات محروماً حتى من ممارسة آدميته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق