أوثان وأصنام – حسام عيتاني – الحياة
قد تدخل هذه الممارسات في إطار مبالغة جلاوزة النظام وزبانيته في تحطيم السجين وإذلاله عبر تحقير ما يؤمن به والحطّ من قيمه ومُثُله وإظهارها عديمة النفع أمام جبروتهم وسطوتهم، اللذين يطلبان باسمهما الطاعة من الأسير أو الُمعتقل، على جاري عادة السجانين الساديين. وفاقمت من تفشي هذا السلوك «علمانية» مزعومة للبعث الذي رأى في الدين أداة يبسطها ويقبضها وفق الحاجة السياسية، على ما فعل صدام حسين في الأعوام الأخيرة من حكمه، وعلى النحو الذي نشر فيه حافظ الأسد صنفاً من التدين غير السياسي في سورية (بناء مئات المساجد، افتتاح المدارس القرآنية، ظاهرة القبيسيات…) بعد صدامه مع جماعة «الإخوان المسلمين»، وهذا نهج سار بشار الأسد عليه.
ولا مفر من القول إن إهانة معتقدات السجناء وتعريضهم إلى «التشبيح» المعنوي والنفسي، اندرجت ضمن عدة الهيمنة الطائفية، في حين راح التنديد بهذه الممارسات تنديداً عنيفاً ومادياً يكتسي شكل استعادة هيمنة طائفية مقابلة.
من جهة ثانية، كان تأليه الزعيم الذي تراقب صوره وتماثيله المواطنين في الساحات العامة والذي أُدخل في ذهن السوريين أنه «باق إلى الأبد» وأنه الأحكم والأصلح والأنسب لحكم بلادهم هو وذريته، على مدى أربعة عقود، يصدر (التأليه) عن التمسك الشديد باللحظة وبالحاضر ومحاولة تأبيدهما وإدامتهما إلى ما لا نهاية له، لإدراك النظام ضيق قاعدته وهشاشتها، باختراع رموز ولغة وسلوك عام يتقمصها الموالي في حياته اليومية.
وما يصح على سلطة الأسد الأب ثم الابن، يصح بالقدر ذاته على إلغاء السياسة وحظرها ليس كآلية لإدارة الاختلاف في المجتمع فقط، بل أيضاً كعلامة على تغير الزمن وما ينطوي على التغير هذا من زوال دول وسقوط ممالك. فيصير النظر العقلاني في أحوال الاجتماع والسياسة والاقتصاد، موضع شبهة لا يمحوها غير الانخراط في اللغو الرسمي عن «المبادئ» و»الثوابت» و»الإنجازات التاريخية» و»القيادة الحكيمة»، ما يفاقم الفارق بين الكلمات ومعانيها، ليصبح الدخول السوري العنيف إلى لبنان في عام 1976، تلبية لنداءات الاستغاثة من اللبنانيين، ولتصير حرب المخيمات في الثمانينات جزءاً من «التصدي للمؤامرة العرفاتية» على حقوق الشعب الفلسطيني…وتصبح المسافة قصيرة جداً بين تصنيم الخطاب وبين عبادته كنص مقدس.
نتائج الخروج على العقلانية وتجميد الخطاب السياسي، ليست أقل من وثنية جديدة تشمل الصور والعادات والأعراف الحزبية المتحكمة في عمل إدارات الدولة وأجهزتها ورموزها. ليس بمعنى نشوء دين جديد يكون فيه «البعث» كائناً متعالياً ويحتل الرئيس وعائلته مراتب طقوسية ما، بل بوضع الحزب والرئيس وكل ما يتصل بهما خارج الُمفكّر فيه كمواضيع قابلة للتبدل والفناء. وليس غريباً- في هذا السياق- أن يكون المتشبثون بحكم بشار الأسد غير قادرين على تصور أي مستقبل لسورية من دونه وأن يكونوا هم أصحاب السيناريوات الكارثية عن حكم المجموعات الإرهابية الدينية. لا يُفسر ذلك بارتباطهم بالمصالح المادية التي يستفيدون منها بفضل الحكم القائم فقط، بل أيضاً بسبب رسوخ مقولات تربط الاستقرار والمعاش اليومي والطبيعي لملايين السوريين ببقاء الحال على ما هي عليه.
ويبدو أن موجات عبادة الفرد التي بدأت في أواخر سبعينات القرن الماضي، قد فعلت فعلها عند مؤيدي النظام من جهة، لكنها أدت، من جهة ثانية، إلى عزل أركان الحكم عن الواقع وانفصالهم عن قوانينه ومتغيراته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق